سورة الأنعام
(الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ (1)) هذا مطلع سورة الأنعام. (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ) هذه الآية نفهم منها مقصود السورة وهدفها وهذه السورة نزلت في مكة، كل السور التي قبلها من الطوال بخلاف الفاتحة نزلت في مكة على المرجّح وبقية السور كلها مدنية وهذه أول سورة مكية. ومعنى أنها مكية أي نزلت قبل الهجرة وليس المقصود أنها نزلت في مكة. (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا (3) المائدة) هذه الآية نزلت في حجة الوداع في عرفة ويعتبرها العلماء مدنية لأن مدنية لا يقصد بها مكان النزول وإنما يُقصد على المرجّح ما كان بعد الهجرة وبعد الهجرة، فما كان قبل الهجرة مكي وما كان بعد الهجرة مدني فهذه السورة قبل الهجرة مكية نزلت قبل الهجرة. وبعض العلماء يرى أنها نزلت دفعة واحدة لأن هذا وردت في أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن هذه الأحاديث اختلف العلماء في صحتها فمن رأى صحتها رأى أنها نزلت دفعة واحدة وأنها نزل معها سبعون ألف ملك يشيّعونها أو أنها نزلت معها من الملائكة ما سدّ الأفق أم كما جاء في الأحاديث وهذه الأحاديث فيها ضعف وبعض العلماء يحسّنها لكثرة طرقها وشواهدها وبعض العلماء يرون أنها غير صحيحة وفيها خلاف بين العلماء القدماء والمعاصرين لكن المهم أنها نزلت في مكة.
هذه السورة تدور حول التوحيد، توحيد الله تعالى ووجوب إفراده بالعبادة، الأدلة على ذلك، تدور حول الأدلة على التوحيد وعلى وجوبه عقلاً ونقلاً وتدل أيضاً على شدة التعجب من تصرف الكافرين الذين يؤمنون بوجود الله ثم يعبدون غيره ولهذا قال الله تعالى في أول آية التي هي مفتاح السورة (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ) يساوون بين الذي خلق السموات والأرض ووجعل الظلمات والنور يعدلون به غيره والعياذ بالله! وهذا أمر غريب! خلق السموات والأرض وما فيها وجعل الظلمات والنور فينبغي أن يتجه المخلوقون جميعاً إليه سبحانه وتعالى لكن العجيب أن الذين كفروا بربهم يعدلون فهذه السورة تدور في كثير من آياتها حول هاتين القضيتين: حول أن الله هو الذي أوجد كل شيء وهو الذي يتصرف في كل شيء ويدبر أمر كل شيء وبيده ملكوت كل شيء وأن الكفار عندما عدلوا به غيره قد ضلوا ضلالاً بعيداً وأتوا أمراً لا يُتصور عقلاً. ولذلك تتكرر لفظتان في هذه السورة – لو الإنسان قرأ هذه السورة وهي ليست بالقصيرة حوالي 22 صفحة – يجد لفظتين تتكرران كثيراً الأولى (وهو) عائدة إلى الله سبحانه وتعالى تتكرر كثيراً في السورة. أول السورة قال (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴿١﴾ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ﴿٢﴾ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴿٣﴾) تكررت (وهو) عائدة إلى الله سبحانه وتعالى. ثم قال (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴿١٨﴾) (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿٦٠﴾ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴿٦١﴾) إلى غيرها من الآيات تتكرر كثيراً (وهو). وإذا أراد الإنسان أن يزيد يقينه بربه وأن يزيد من توحيده لله وأن يزيد من توجهه إلى الله فليركزّ على هذه الآيات (وهو) لأن بعدها من صفات الله ما يدعو إلى التوجّه إليه. صحيح أن الآيات تتحدث ابتداء عن المشركين، عن الشرك الأكبر، عمن يُشرك مع الله غيره، لكن المؤمن يحتاجها لأن عندنا ضعف في التوحيد ولأن عندنا وقوع في الشرك الأصغر، فلو أن أحدنا لديه حاجة في مصلحة من المصالح وبحث عن واسطة من البشر وتوجه إليها وطلب منها المساعدة ونسي الله في هذه اللحظة، هذا كما أفتت هيئة كبار العلماء من الشرك الأصغر لا يُخرج من الملّة لكنه ضعف في التوحيد وخلل في التوحيد. التوحيد الكامل يعني التوجه الكامل إلى من بيده ملكوت كل شيء سبحانه وتعالى وكلما ضعفت أدلة التوحيد في القلب وضعف استحضار أن من يملك السموات والأرض هو الله وأن من يأخذ بالنواصي سبحانه وتعالى هو الله وأن الذي يرزق هو الله يضعف توحيد العبادة بحسب ضعف توحيد المعرفة بالله سبحانه وتعالى فهذه الآيات (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴿٣﴾) (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴿١٨﴾) (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴿٦١﴾) وغيرها من الآيات تزيد من التوحيد في القلب وتذكّر الإنسان بالحقيقة التي قد تغيب بقدر الإيمان تبقى هذه الحقيقة ظاهرة وبقدر ضعف الإيمان تضعف هذه المعاني فيضعف التوجه إلى الله سبحانه وتعالى. كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً تحت ظل شجرة فجاءه رجل بسيفه قال من يمنعك مني؟ قال: الله! حقيقة ظهرت أمام رسول الله فأثّرت على تصرفه لكن تخيل لو أن الإنسان وقف مثل هذا الموقف ماذا يفعل؟ هل يقول الله؟! لا أظن، لأن الإيمان ضعيف وقد يقول قائل هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا غير صحيح لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم من المواقف التي ظهر فيها توحيدهم لله واستحضارهم لعظمته وقيوميته وملكه للسموات والأرض ما هو معلوم عند البعض وقد يخفى عند البعض لكنه موجود. من ذلك مثلاً الصحابي الذي ضلّ في الغابة وهو سفينة رضي الله عنه (وهذا لقبه) جاءه أسد فقال يا أبا الحارث (وهذه كنية الأسد) وتخيل قوة الإيمان ورباطة الجأش أنه يكنّي الأسد والقصة ثابتة، قال يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فطأطأ الأسد رأسه. قال سفينة: دلّني على الطريق، فقال الراوي: فطأطأ الأسد راسه وأخذ يغمغم واقترب من سفينة وصار يضربه برأسه حتى يدله على الطريق حتى نجا سفينة في هذا الموقف العجيب لكنه ليس بعجيب على من آمن أن كل شيء بيد الله سبحانه وتعالى.
فهذه السورة تتكرر فيها كلمة (وهو) يتأمل فيها الإنسان حتى يقوي الإيمان. الإيمان يضعف ويقوى، ينقص ويزيد، وما يقويه مثل هذه الآيات (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴿٣﴾)
الكلمة الأخرى التي تتكرر كثيراً هي (قل) والخطاب فيها موجه في معظم الآيات إن لم يكن في كل الآيات في السورة للنبي صلى الله عليه وسلم في خطابه مع المشركين غالباً. الآية ي أول السورة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) هذا الجزء من الآية تغذّيه في السورة كل كلمة (هو) تؤكد على هذا المعنى أنه خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور. (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴿١﴾) هذه تحتاج إلى نقاش فالله سبحانه وتعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بأمور يأمره أن يوجهها إلى الكفار ليوقظهم من غفلتهم يدلهم على بطلان عقيدتهم فيقول مثلاً (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴿١١﴾) امشوا في الأرض وانظروا الذين من قبلكم من الذين اشركوا بالله ماذا كان مصيرهم؟ (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿١٢﴾) يأمر الله نبيه أن يقول لهم لمن ما في السموات والأرض؟ ثم يأمره أن يجيب هو (قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) وإذا كان ما في السموات والأرض لله والله كتب على نفسه الرحمة إذن لماذا يعدلون به غيره؟! ثم يقول (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿١٣﴾) وهذا دليل على وحدانيته ودليل على بطلان شرك أهل الشرك، (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) وما تحرّك، كل شيء لا بد أن يسكن في لحظة مهما كان قوياً لا بد أن يسكن والله هو الذي يملك كل ما سكن وهو الذي يحرّكه بعد أن يسكن سبحانه وتعالى وهو في كل ذلك سميع عليم وإذا كانت بيده الحركة والسكون جلّ في علاه فإلى من نتوجه؟! هو الحي الذي لا يموت وبيده ما سكن في الليل والنهار سبحانه وتعالى. ثم قال لنبيه (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿١٤﴾) تتوالى الآيات في ذكر التوحيد وفي ذكر قهر الله لعباده وإحاطته بهم قدرة وعلماً سبحانه وتعالى حتى تتوجه القلوب إليه ولا تتعلق بشيء غيره.
في نهاية القسم الأول من السورة الذي يدور حول التوحيد وحول بطلان أهل الشرك يختم الله لنا بقصة عظيمة نعرفها جميعاً وهي قصة إبراهيم عليه السلام وهي قصة توحيد. وقصة إبراهيم ذكرت في سور كثيرة لكن في هذه السورة ذكرت فيها أمور لم تُذكر في السور الأخرى وفي السور الأخرى ذكر ما لم يُذكر هنا ومن أسباب ذلك كما ذكر العلماء والعلم عند الله سبحانه وتعالى أن القصة تُذكر في كل سورة لعبرة معينة فيُذكر من القصة ما يناسب تلك العبرة. وقد ذكرت هذه القصة في هذه السورة للرد على أهل الشرك وبيان بطلان عبادتهم غير الله وأن المستحق للعبادة هو الله فذكر الله سبحانه وتعالى من قصة إبراهيم ما يناسب ذلك. قال الله سبحانه وتعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿٧٤﴾ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴿٧٥﴾) إبراهيم نشأ في بيئة الكفار الذين يعبدون الأصنام لكن الله أراه ملكوت السموات والأرض وكلنا يرى ملكوت السموات والأرض لكن من الذي يجعله ذلك يوقن بالله ويتوجه إلى الله؟ نحن نرى الشمس تغرب كل يوم واليوم الثاني تطلع وبعض الناس يمرون على هذه الظاهرة كما قال الله سبحانه وتعالى (وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) الأنعام) غروب الشمس آية، وطولعها غداً آية، وعندما نطفئ الأنوار في المسجد ليلاً يصبح الظلام دامساً نحتاج لفترة قد نتعود على الوضع وقد يخاف الإنسان أو الأمر ويُفجع لأنه لا يعرف ماذا حصل في الكهرباء لكن إن تتأمل في لطف الملك سبحانه وتعالى هل تضايقت يوماً عندما يأتي الليل بعد النهار؟! وإنما بكل هدوء ويسر ينتقل الحال من نهار إلى ليل دون أي ضواضاء دون أي ازعاج أو قلق أو تشويش، بل على العكس إذا رأيت الشمس وهي تغرب ترتاح وتطمئن وتقول سبحان الملك كيف ينقل الناس من حال إلى حال. فإبراهيم عليه السلام كان يرى هذا (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) والله بهذا ينبهنا على الطريقة التي يزيد بها اليقين ويستيقظ الإنسان من غفلته ويعرف أن للكون مدبراً واحداً سبحانه وتعالى. قال (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ ﴿٧٦﴾ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴿٧٧﴾ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴿٧٨﴾ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) بما فيها الشمس والقمر والكواكب (حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿٧٩﴾) وذكر الله محاجته لقومه (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ﴿٨٠﴾ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٨١﴾).
ثم ذكر الله في هذه السورة عدداً كبيراً من الأنبياء لم يجتمع في سورة أخرى ليدل على أن التوحيد لم يكن خاصاً بإبراهيم وإنما هو سيما الأنبياء بل هو دعوة الأنبياء فلا ينبغي أن يخفى على المشركين فيتعجبوا من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما دعا إلى التوحيد لم يدعُ بشيء جديد قال سبحانه وتعالى بعد أن ذكر إبراهيم عليه السلام (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿٨٤﴾ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿٨٥﴾ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا( 18 نبي في سورة واحدة في مكان واحد (وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿٨٦﴾ وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ) كانوا أيضاً على التوحيد (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿٨٧﴾ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا) لو هؤلاء الأنبياء العظماء الأولياء لو أشركوا (لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿٨٨﴾) الذي رفعهم ليس جنسهم ولا لونهم ولا بلدهم ولا أموالهم، ما نفعهم إلا التوحيد (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
ثم ختم الله هذا القسم وقد بدأه بشرك أهل الشرك عندما قال (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) هذا في الدنيا، في الآية 94 ذكر حالهم في الآخرة فقال (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴿٩٣﴾ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) كل واحد يأتي فرداً من غير ملابس كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم غير مختونين (وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ) كل ما أعطاهم الله سبحانه وتعالى سيتركه ولا يدخل معهم في قبرهم إلا عملهم (وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴿٩٤﴾) هكذا انتهى القسم الأول من السورة في إثبات وحدانية الله وتفرّده وفي إثبات بطلان شرك أهل الشرك.
القسم الثاني بدأ بقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴿٩٥﴾) والآيات طويلة لكن نحاول أن نختصر، ذكر الله في هذه الآيات أدلة على وحدانيته وذكر مواقف عجيبة لأهل الشرك قال (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ) ماذا عند الجن والله سبحانه وتعالى فالق الحب والنوى؟! والله جعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً وهو الذي جعل النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البحر (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ) هؤلاء الجن مخلوقون لله سبحانه وتعالى فكيف تُعبد من دون الله سبحانه وتعالى؟! (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ﴿١٠٠﴾). ثم ذكر أمراً عجيباً آخر فقال (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا) يحلفون أنهم لو رأوا آية سيؤمنوا، وهذه السموات والأرض والليل والنهار وتصريف الرياح والنجوم أليس هذه آيات؟ هي آيات ولكن (وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ) لذلك قال عنهم هنا (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا). ثم ذكر أمراً عجيباً منهم وهو أنهم بدأوا يشرّعون لأنفسهم (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا) بدأوا يقولون من عندهم هذا حلال وهذا حرام، والله هو الذي خلق وهو الذي رزق وهو الذي يملك وهو الذي بيده كل شيء فهو الذي له الحق أن يقول هذا حلال وهذا حرام وهو الذي له الحق أن يحرّم بعض المطعومات من الزرع وبعض المطعومات من الحيوان لكنهم بدأوا هم يتصرفون في ذلك وردّ الله عليهم (فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴿١٣٦﴾) واستمرت الآيات تذكر نعم الله على العباد وتذكر كيف أنهم يحاولون التحريم والتحليل من عند أنفسهم ويقول النبي لهم (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا (114)) مين يحكم غير الله؟! (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿١١٤﴾) إلى أن قال سبحانه وتعالى (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) أنا آتيكم بما هو حرام (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿١٥١﴾) وذكر ثلاث آيات لخّص فيها المحرّمات في ذلك الوقت لأنه في مكة كثير من الأمور ما كانت حُرّمت لكن ذكر بعض المحرّمات الأساسية في الدين في الوصايا العشر التي ذُكرت في آيات ثلاث (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿١٥١﴾ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿١٥٢﴾) إلى أن قال سبحانه وتعالى (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿١٦١﴾ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٦٢﴾ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴿١٦٣﴾ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿١٦٤﴾) فعادت السورة إلى توحيد الله وإلى إثبات دعوة رسول الله التي هي التوحيد الخالص وإفراد الله بالعبادة وبالتوجه في كل حركات الحياة وسكناتها (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أُمر بها رسول الله ونحن لرسول الله تَبَع نفعل ما فعل فنسأل الله أن يميتنا على التوحيد وأن يوجه قلوبنا إليه، اللهم وجّه قلوبنا إليك، اللهم أعذنا من الشرك الأكبر والأصغر..
موقع إسلاميات