- من أسرار الترتيب "علم المناسبة "
سورتا المائدة والأنعام نموذجًا
القرآن الكريم هو المُعجِزة الباقية إلى يوم القيامة، ومن دلائل الإعجاز الحفظ والتحدّي؛ فبقاؤه محفوظًا من غير تبديل ولا تغيير، ومن غير زيادة ولا نُقصان، على خلاف الكتب السابقة التي نالها التحريف والتغيير - دليل من دلائل الإعجاز؛ فقد تكفَّل الله تعالى بحفظ القرآن، ولم يتكفَّل بحفظ غيره من الكتب؛ ففي شأن القرآن قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وفى شأن الكتب السابقة - حيث وكل الله حفظها للأحبار والرهبان - قال تعالى: ﴿ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ﴾ [المائدة: 44]، ومِن لطائف الحفظ أن الله تعالى أحاط كتابه برقيتَين ثابتتَين؛ الفاتحة في أوله والمعوذتين في آخره.
وأما التحدي فعجز البشر عن الإتيان بمثله أو بسورة مثله أو بسورة من مثله، دليل آخَر من دلائل الإعجاز، وقد حسمت القضية بقوله تعالى: ﴿ وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾ [البقرة: 24]، وهو إعلان حاسم وتقرير جازم بدوام التحدي، وهناك ألوان كثيرة للإعجاز، وستظلُّ دلائل الإعجاز تتجدد وتتكشَّف إلى آخر الزمان، ومن ألوان الإعجاز القديمة المتجدِّدة تناسب مواضع الآيات والسور وتناسُق ترتيبها وترابط معانيها واتصال موضوعاتها، وإحكام البناء التركيبي للآية والسورة بتكامل وانسجام غاية في الروعة والإتقان، وقليل من العلماء والباحثين قديمًا وحديثًا من اهتمَّ بهذا اللون من الإعجاز، واجتهد البعض فيه، وأطلَقوا عليه "علم المُناسبة"، وقيل عنه: "هو علم شريف قلَّ اعتناء المفسرين به لدقّته، وأكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط.. ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى يكون كالكلمة الواحدة متَّسقة المعاني منتظمة المباني.." كتاب "تناسق الدرر في تناسب السور"؛ للشيخ جلال الدين السيوطي - دار الكتاب العربي سوريا ط1 ص: 18، ويؤيد ذلك القول بأن ترتيب المصحف توقيفي؛ فهو كما كان في اللوح المَحفوظ، كما نزل إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، كما نزل به جبريل منجَّمًا في ثلاث وعشرين سنة، كما هو الآن؛ وهو القول الراجح [المرجع السابق (ص: 27)] وجدير بالذِّكر أن لكل سورة خصائصَها وما تتفرَّد به عن غيرها، سواء في مطلعها الذى يُشير إلى موضوعها ويتَّسم ببراعة الاستهلال، أو في خاتمتها التي ترتبط من ناحية الشكل أو الموضوع بمطلع سورتها ومطلع السورة التي تليها؛ وسأُبين ذلك مجتهدًا في الربط بين سورتي "المائدة" و"الأنعام" كنموذج تطبيقي، مُستعينًا بالله تعالى وتوفيقه، مع التنبيه على الفارق الزمنى بين توقيت نزول السورتَين، والذى يقرب من عشر سنوات، وبينهما ست وخمسون سورة (31 سورة مكية و25 سورة مدنية)، ثم توضَع هذه بجوار تلك لتتعانَقا من أجل قضية واحدة هي قضية الحكم خصوصًا في الأطعمة (الذبائح)؛ فسورة المائدة تُعالِجها من ناحية التحليل والتحريم، وسورة الأنعام تعالجها من ناحية العقيدة، ومَن له حق الحكم والتشريع، وأن البشر حينما يشرعون فإنهم يُشرِّعون سخافات وحماقات وقوانين هزيلة باطلة! وإلى البيان:
1- استهلَّت سورة المائدة بقوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1]، يقول ابن كثير: "أي العهود؛ يعنى ما أحل الله وما حرم، وما فرض وما حدَّ في القرآن كله.."، وفى خواتيم سورة الأنعام عدة وصايا في قوله تعالى: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ... ﴾ [الأنعام: 151] كان منها: ﴿ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ﴾ [الأنعام: 152].
2- قضية "لمن الحكْم":
ففي سورة المائدة جاءت مادة "حكم"، و"أحلَّ"، و"حرم" كما يلي: مادة "حكم" ذكرت خمس عشرة مرة، وذكرت مادة "أحل" عشر مرات, وذُكرت مادة "حرم" خمس مرات؛ وهنا لطيفة وهي: إذا كان الحكم هو ما أحلَّ وما حرَّم، فإن مجموع ما أحل وما حرم هو مجموع ما حكم، وقد ناقشت سورة الأنعام قضية "لمن الحكم"، وعالجتْها بأسلوب الاستفهام الاستنكاري في قوله تعالى: ﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ﴾ [الأنعام: 114]، فمِن أوليات العقيدة ومُقتضيات الألوهية أن يكون الله هو الحكم، لأن غيره لا يَصلُح أن يكون حكمًا أو محلاًّ أو محرَّمًا، ولا حجة ولا عذر لأحد وقد أنزل الله كتابه مُفصلاً للأحكام ومحفوظًا من التبديل.
3- قضية الأنعام:
في مطلَع سورة المائدة جاء قوله تعالى: ﴿ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ [المائدة: 1] ردًّا وبيانًا لما ورد عن افتراءات المشركين وزعمِهم في إباحة أكل بعض الأنعام وتحريم ظهور بعضِها، وحكم ما في بطون بعضها الآخَر؛ وهو ما جاء في سورة الأنعام في قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ... ﴾ [الأنعام: 138]، وما بعدها، أما تفصيل قوله تعالى: ﴿ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ [المائدة: 1] فقد جاء في سورة المائدة في قوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ... ﴾ [المائدة: 3]، وهذه الآية - أيضًا - جاءت مؤكِّدة لما جاء في حكم الذبائح في سورة الأنعام في قوله تعالى: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.. ﴾ [الأنعام: 118] وما بعدها، والتذكية - أي الذبح الشرعي - هو ما ذُكر في سورة المائدة؛ وفيه بيان أن لحوم الأنعام حرام إلا ما ذُكي ذكاة شرعيَّةً، وهو ما جاء ذكره في سورة الأنعام: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ﴾ [الأنعام: 121]، وإذا دقَّقنا النظر واستكملنا البحث فسنجد أن السورتين تعانقَتا في تناغُم وتكامل غاية في الإتقان والانسجام في تناول تام لكل جوانب القضية، ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 115].
4- قضية العدل:
والعدل ضد الجور، والعِدل - بالكسْر - المثل، وعدل عن الطريق: جار، والعادل: المُشرِك الذى يعدل بربه، ومنه قول المرأة للحجاج: "إنك لقاسِط عادل"؛ مختار الصِّحاح، وجاء ذكر العدل في مطلع سورة الأنعام: ﴿ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 1]، يقول القرطبي - رحمه الله تعالى -: "والمعنى: ثم الذين كفروا يجعلون لله عدلاً وشريكًا، و"ثم" دالة على قبْح فعل الكافرين، فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتُك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمُني، ولو وقع العطف بالواو لم يلزم التوبيخ كلزومه بثُمَّ"، وتكرَّر ذكر العدل أيضًا في سورة المائدة، لكن بغير المعنى الذى جاء في سورة الأنعام؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8]؛ ولا شكَّ أن أول مُقتضى العدل أن يكون الحكم لله لا لغَيره، وحق التشريع له وحده؛ لأنه الرب المالك والإله الآمر الناهي، المَعبود بحق، وليس مِن العدل أن يكون هو الرب الخالق المُنعِم ثم يَحكم أو يُشرِّع غيرُه، ويأتي بعد ذلك العدل مع الخَلق.
5- قضية نقض الأحكام:
سواء بالتحريف أو بالنقصان أو بالكتمان؛ فقد نوقشت هذه القضية في سورة المائدة في مواضع كثيرة؛ في "مَن لم يحكم بما أنزل الله، وأنهم هم الكافرون والظالمون والفاسقون، في الآيات 44 - 47"، مع الإشارة في بعضها لما كان يفعله اليهود، كما في قوله تعالى: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾ [المائدة: 13]، وفى سورة الأنعام نُوقِشَت ذات القضية، وبينت أن الدافع عقدي وهو عدم تعظيم الله - عز وجل - لأن من عظم الله تعالى عظم حكمه وشرعه؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ﴾ [الأنعام: 91]، يقول الإمام الطبري: "ما أجلوا الله حق إجلاله، وهم اليهود والنصارى، آتاهم الله علمًا فلم يقتدوا به ولم يعملوا به.."، ويقول القرطبي: "﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾؛ أي: فيما وجب له واستحال عليه وجاز، لما قالوا: ﴿ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ﴾ نسبوا لله - عز وجل - أنه لا يقيم الحُجَّة على عباده بما لهم فيه الصلاح، فلم يُعظِّموه حق عظمته، ولا عرفوه حق معرفته..).
6 - قضية توحيد الأسماء والصفات:
فقد نوقشت القضية في خواتيم سورة المائدة، وقررت أن عيسى عليه السلام وأمه ليسا بإلهَين، وأن عيسى عليه السلام لم يَأمُر إلا بما أمره الله تعالى به؛ وهو ﴿ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾ [المائدة: 117]، وفى سورة الأنعام قال تعالى: ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ﴾ [الأنعام: 101].
7- قضية التعنُّت والمادية:
فقد ذكرت في سورة المائدة في طلب الحواريِّين من عيسى أن تَنزِل عليهم مائدة من السماء يأكلون وتطمئن قلوبهم بعد الأكل منها؛ في قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً... ﴾ [المائدة: 112]، وهذا من سوء أدبهم وتعنُّتهم وقلة تعظيمهم لله رب العالمين، وأن القضية ليست في الآيات فما أكثرها، ولكن القضية في الطبيعة المادية النَّكِدة، وقد ذكرت ذات القضية في سورة الأنعام في قوله تعالى: ﴿ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴾ [الأنعام: 4]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الأنعام: 7].
وبعد، فما فتح الله تعالى به هو قليل من كثير ما يُثبِت التناسب والتلاحم بين السورتين في إعجاز جليل وتناغم جميل وتكامُل بَديع، وهذه خصائص كتاب الله المجيد وقرآنه الكريم وكلامه القديم، الذى لا يأتيه الباطل ولا يعتريه التعارض؛ بل الإحكام والإتقان، والتناسُق والتناسُب، والتمام والكمال والجمال، وهكذا في كل سورِه ونظْمِه وترتيبه المُعجِز بلفظه ومعناه، والله الموفِّق والمَرجو ثوابه.
الالوكة