ثَبَتَ عن النيى - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان إذا صَلَّى سُمِع لصدره أزيز كأزيز المِرْجَل منَ البكاء، أي: كصوت القدر إذا اشتدَّ غليانه؛ رواه أبو داود، وأحمد، والنسائي.
هذا حال النبي - صلى الله عليه وسلم - في بكائِه مِن خشية الله، أَخَذَهَا الصحابة والتابعون - رضوان الله عليهم - فقد روى الحاكم، والبَزَّار بِسَنَدٍ حسن، عن زيد بن أرقم، قال: كنَّا مع أبي بكر - رضيَ الله عنه - بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -فاسْتَسْقى، فقدم له قدح من عَسل مشوب بماء، فلمَّا قربه إلى فِيهِ بكى وبكى، حتى أبكى مَن حوله، فما استطاعوا أن يسألوه عن سبب بكائه، فسكتوا وما سكت، ثم رفع القدح إلى فيه مَرَّةً أخرى، فلما قربه من فيه بكى وبكى، حتى أبكى مَن حوله، ثم سكتوا فسكت بعد ذلك، وبدأ يمسح الدموع من عينيه - رضي الله عنه - فقالوا: ما أبكاك يا خليفة رسول الله؟ قال: كنتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكان ليس معنا فيه أحد، وهو يقول: «إليكِ عني، إليكِ عني» ، فقلتُ: يا رسول الله، مَن تُخاطِب، وليس ها هنا أحد؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «هذه الدُّنيا تمثَّلت لي، فقلتُ لها: إليكِ عني، فقالت: إن نجوتَ مني فلن ينجو مني من بعدك»، فخشيت مِن هذا.
وَبَكَتْ فاطمة بنت عبدالملك - رحمها الله - ذات مَرَّة، فسُئِلَتْ، فقالت: رأيت عمر بن عبدالعزيز ذات ليلة قائمًا يُصَلِّي، فأتى على هذه الآية:
{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 4، 5]، فبكى ثم قال: واسَوءَ صباحاه، فسقط على الأرض وجعل يبكي، حتى ظننتُ أن نفسَه ستخرج، ثم هدأ فظننتُ أنه قد قضى، ثم أفاق إفاقة فنادى: ياسَوءَ صباحاه، ثم قفز فجعل يجول في الدار، ويقول: ويلي مِن يوم يكون الناس فيه كالفَرَاش المبثوث، وتكون الجبال كالعِهن المنفوش، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر، ثم سقط كأنه مَيِّت، حتى أتاه الإذن للصلاة، فوالله ما ذكرت ليلته تلك إلا غَلَبَتْني عيناي، فلم أملك رد عَبْرتي.
وقام محمد بن المنكدر ذات ليلةٍ فبكى، ثم اجتمع عليه أهله ليستعْلِموا عن سبب بكائه، فاستعجم لسانه، فدعوا أبا حازم، فلما دَخَل أبو حازم هدأ محمد بن المنكدر بعض الشيء، فسأله عن سبب بكائه، فقال: تلوتُ قول الله - جل وعلا -:
{وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]، فبكى أبو حازم، وعاد محمد بن المنكدر إلى البكاء، فقالوا: أتينا بك لتخفِّف عنه فزدته بكاءً، ولكنه قول الله:
{وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]، وكان الربيع بن خثيم يبكي بكاءً شديدًا، فلمَّا رأت أمه ما يلقاه ولدها منَ البكاء والسهر نادَتْه، فقالت: يا بني، لعلَّكَ قتلتَ قتيلاً؟ فقال: نعم ياوالدتي، قتلتُ قتيلاً، فقالتْ: ومَن هذا القتيل يابني، نتحمل إلى أهله فيُعفوكَ؟ والله، لو علموا ما تَلْقى منَ البكاء والسَّهَر لقد رحموك، فقال الربيع: ياوالدتي هي نفسي، ياوالدتي هي نفسي.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار يا رحمان، اللهم بارِكْ لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.